
بعد وصولهم إلى أوروبا عبر الحدود التركية البلغارية، تُرفض طلبات اللجوء التي يتقدم بها السوريون بشكل ممنهج في بلغاريا. فمنذ سقوط نظام بشار الأسد، يرفض البلد الذي يعد بوابة للاتحاد الأوروبي جميع طلبات لجوئهم تقريبا. وضع يحاصر السوريين خصوصا أنه لا تتاح خيارات استقبال بديلة ولا إجراءات تسوي أوضاعهم في بلدان أوروبية أخرى. تقرير من بلغاريا لمايا كورتوا وسيمون موفيو ومايل غاليسون.
في اللحظة التي أغلق فيها محمد بوابة مركز أوفتشا كوبيل في ضواحي العاصمة البلغارية صوفيا، وضع سماعات على أذنيه، وبدأ بالمشي على أنغام الموسيقى بكل هدوء. رأت عيناه السوداوان الكبيرتان وسط وجهه المليء بالنمش، كمجرة تتلألأ فيها النجوم، الكثير في حياته، رغم صغر سنه الذي يجهد الخروج من المراهقة ليصبح راشدا ذا 18 عاما.
ولكي يصل إلى هنا، على مشارف أوروبا، بعد فراره من سوريا وتركه المدرسة قبل عامين، اضطر محمد لعبور الحدود بين تركيا وبلغاريا. يقول طاويا يديه على الحقيبة السوداء المعلقة على كتفه “كان ذلك صعبا للغاية. كان الطريق طويلا جدا. مشيت بين الأشواك. كان الجو باردا. حتى أنني رأيت دبا !”.
على الرغم من صعوبة هذا العبور، يفكر محمد الآن في العودة. ينتظر في مركز الاستقبال البلغاري هذا مع شباب آخرين منذ أشهر عديدة. وقد تلقى مؤخرا رفضا ثانيا لطلب لجوئه. يقول “لا شيء لي هنا. ليس لديّ حق في الإقامة”. ويضيف أنه في تركيا “لديّ على الأقل أخي الصغير وأبناء عمومتي”. ما يكفي لمحاولة بناء حياته هناك، رغم خيبة الأمل في أوروبا.
على بعد أميال، يأتي إليه صديقاه عيسى وبشار. هما أيضا قدما من سوريا. يقول المراهقان “لا يوجد سوى سوريين” في مركز أوفتشا كوبيل الذي نرى خلف أبوابه الموصدة مزلقة أطفال يعلو حولها العشب الطويل، وينفذ الهواء البارد من نوافذه المكسورة في الواجهة الخلفية للبناء.
من غرفة زجاجية صغيرة على حرف طريق سريع خارج من العاصمة، حيث يتواجد مركز فرازديبنا الذي يعيش فيه بشار، يراقب ثلاثة ضباط شرطة بزيّ داكن الخارجين والداخلين. يؤكد بشار أنه هنا أيضا لا يقطن “سوى سوريين”. في هذا المركز، تتدلى بعض الملابس من على قضبان النوافذ، المطلية بلون وردي ملؤه الصدأ، وبعضها تساقط وبقي معلقا على أغصان الأشجار.
حاول بشار الهروب من هذه البيئة الكئيبة، فبمجرد دخوله أوروبا، ذهب إلى النمسا. لكن كغيره من المهاجرين الذين يُعترضون عند دخولهم بلغاريا، ترك بصمته هنا، على مشارف الاتحاد الأوروبي، فأعادته النمسا بموجب اتفاقية دبلن. وبعد أشهر من الانتظار في مركز فرازديبنا، رُفض طلب لجوئه. ووفقا للقانون البلغاري، تستغرق معالجة طلب أول للجوء ستة أشهر كحد أقصى، وبعدها لا يُتاح سوى استئناف واحد. يقول بشار متنهدا “الآن، لا مساعدة. لا شيء. لن يسمحوا لنا بالعمل، ولن يكون لنا حق الإقامة هنا”. في هذا المركز، الذي يصفه بأنه “قذر، وفيه شراشف ملوثة وأمراض”، يُعاني من التهاب جلدي في وجهه.
على غرار العديد من الجمعيات المعنية بشؤون المهاجرين، تُشير ديانا رادوسلافوفا، المحامية في منظمة “صوت في بلغاريا” غير الحكومية للدعم القانوني، إلى أن طلبات اللجوء السورية “رُفضت بشكل ممنهج” منذ سقوط بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024. “في الأشهر الأخيرة، قُدّمت مئات الطعون القانونية، لكن غالبية القرارات، بما فيها الصادرة من المحكمة العليا، تُؤيد رفض طلبات اللجوء”.
حتى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين استخلصت ذلك في تقريرها الصادر في آذار/مارس 2025 عن بلغاريا. وأوردت “فيما يتعلق بطلبات اللجوء المقدمة من السوريين، بالإضافة إلى تلك المرفوضة بحجة أن تركيا دولة ثالثة آمنة، بدأت ‘وكالة الدولة للاجئين SAR، المكلفة بطلب اللجوء‘ برفض الطلبات في الربع الأخير من عام 2024”.
وتعتقد السلطات البلغارية أن الوضع في سوريا لم يعد ” بحالة وصل فيها العنف العشوائي إلى مستوى يُعرض المدنيين، لمجرد وجودهم على أراضيها أو في منطقة مُعينة منها، لخطر حقيقي مُهدد”، وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وبعبارة أخرى، ترى السلطات البلغارية أن طالبي اللجوء السوريين لم يعودوا، إلا في بعض الاستثناءات، يندرجون ضمن أسباب الاضطهاد المُحددة في اتفاقية جنيف لعام 1951. ما يفسر تزايد حالات رفض طلبات اللجوء.
بعد عبوره الحدود في آب/أغسطس 2023، مُنح محمد الحسين* حق اللجوء قبل هذا التحول الجذري في تاريخ سوريا في شباط/فبراير 2024. ويحمل هذا الشاب، ذو الـ 23 عاما وشما باللغة العربية على ذراعه “لا أستطيع أن أحب أحدا أكثر منك” تكريما لوالدته المنفية في تركيا. كان الحسين يحلم بالاستقرار في ألمانيا، إلا أن المطاف انتهى به هنا حاصلا على الحماية الفرعية بسبب الخضوع لقانون دبلن أيضا. ومثل الكثيرين، لا يتخيل العودة إلى وطنه حيث “لم يعد لدينا منزل، لقد دُمر. وما من عمل. أخي هناك يعمل مقابل 7 دولارات يوميا. ماذا يحقق هذا المبلغ؟ لقد سقط الأسد، لكن كل شيء بقي على حاله. لا كهرباء ولا ماء. ستستغرق إعادة الإعمار سنوات عديدة”.
ورغم شكواه، يدرك الحسين أن السلطات البلغارية لا تعطيه أذنا صاغية، “فعندما سقط النظام، رفضوا الجميع ببساطة، لم يعودوا يمنحونهم أوراقا ثبوتية. لديّ الكثير من الأصدقاء الذين ما زالوا في المخيم، حتى القاصرين منهم، كلهم رُفضوا”. عندما يسأل أصدقاؤه عن تفسير لرفض طلباتهم، يسخر مجيبا “سوريا آمنة”. “ما من دولة تقول إن سوريا آمنة، إلا هنا!”
الأرقام خير دليل، فمن 1 كانون الثاني/يناير إلى 30 نيسان/أبريل 2025، رفضت بلغاريا 1292 طلب لجوء من أصل 1834 طلبا، وفقا لإحصاء وكالة الدولة للاجئين SAR”. ما يمثل معدل رفض بنسبة 70%.
وهذا أعلى بكثير من معدل الرفض في عام 2024، حيث بلغ 19%. وقد بدأ معدل الرفض هذا بالارتفاع مقارنة بالسنوات السابقة، حتى قبل سقوط نظام بشار الأسد. في الواقع، “اعتبارا من منتصف عام 2024″، بدأت وكالة الدولة للاجئين SAR “بتقييم طلبات اللجوء السورية بشكل فردي”، وفقًا “للجنة هلسنكي” البلغارية، وهي منظمة أوروبية غير حكومية لحقوق الإنسان. وقد أدى هذا النهج الجديد إلى رفض شبه تلقائي لطلبات اللجوء في الربع الأخير.
ومنذ تشرين الأول/أكتوبر 2024، بدأت السلطات البلغارية برفض جميع طالبي اللجوء السوريين الجدد، مع استثناءات محددة للغاية، إلا أن هذا يُمثل تحولاً جذريا في نهج التعامل مع هذا الملف. في حين يظل السوريون هم المتقدمين الرئيسيين للحصول على الحماية الدولية، حسبما تشرح ديانا رادوسلافوفا، المحامية في منظمة “صوت في بلغاريا”.
وقبل هذا التحول في السياسة، كان السوريون الجنسية الوحيدة المحمية حقا في بلغاريا، مقابل بقية الجنسيات، مثل الأفغانية والعراقية والباكستانية والمغربية، فلطالما واجه حاملوها معدلات رفض بلغت حوالي 90%. أما الآن، فالسوريون يقتربون من هذه المعدلات المرتفعة للغاية. وتواصل مهاجر نيوز مع الوكالة الحكومية البلغارية لشؤون اللاجئين، ولم نتلق منها أي على أسئلتنا بعد.
“نحن في بلغاريا منذ 11 شهرا، لكننا لا نتمتع بأي حقوق، لا أوراق لدينا، لا شيء على الإطلاق،” تقول متأسفة زاهدة التي يبدو على وجهها الإرهاق عندما التقينا بها في حديقة عامة ليست بعيدة عن مركز هارمانلي في جنوب البلاد. وزاهدة هي شابة كردية من حلب، هربت مع زوجها من الحرب في سوريا عام 2013، ولجآ لمدة تسع سنوات إلى غازي عنتاب قرب الحدود السورية، جنوب تركيا. وهناك، أنجبت طفليها الأولين محمد وليلى، أعمارهما الآن 9 و6 سنوات.
تقول زاهدة “عانينا كثيرا من العنصرية والهجمات ضد الأكراد، فاخترنا مغادرة غازي عنتاب والتوجه إلى أوروبا”. في شهرها الثامن من الحمل، سافرت هي وزوجها وطفلاها إلى إسطنبول ثم أدرنة وتمكنوا من عبور الحدود التركية البلغارية بصعوبة في حزيران/يونيو 2024. وتضيف “لم نكن نرغب في البقاء في بلغاريا. كنا نخطط لمواصلة رحلتنا للوصول إلى فرنسا حيث يعيش بعض الأصدقاء”. إلا أن “الشرطة البلغارية اعتقلتنا بعد عبورنا الحدود مباشرة”.
بالنسبة للمهاجرين الذين يعبرون الحدود سيرا على الأقدام، يصعب عليهم تجنب اعتراض الشرطة البلغارية، فبعد قضاء بضع ساعات في مركز الشرطة للتسجيل الأولي، يُنقل المهاجرون بشكل منهجي إلى أحد المركزين المغلقين في البلاد: ليوبيميتس (بالقرب من الحدود التركية) أو بوسمانتسي (في صوفيا). هذان المركزان مخصصان لاحتجاز الأجانب، حيث تُوصف ظروف المعيشة هناك بأنها مزرية.
يخرج من هذين المركزين من يتقدم بطلب اللجوء بعد حوالي عشرة أيام. وهذا حال زاهدة التي أُجبرت على تقديم طلب لجوء لإنهاء احتجازها، ثم علمت أن طلبها رُفض في 7 شباط/فبراير 2025، أي بعد شهرين بالضبط من سقوط نظام بشار الأسد. ورُفض طلب زوجها بعد بضعة أسابيع. تقول متنهدة “برفضها، تُشير السلطات البلغارية إلى أن سوريا أصبحت الآن بلدا آمنا”.
وتضيف غاضبة “بدون تصريح إقامة في بلغاريا، لا أستطيع فعل شيء لا أنا ولا أطفالي، فهم لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة”. اضطرها هذا الوضع للتواصل مع أفراد من عائلتها في كندا ومع السلطات هناك، إلا أن أوتاوا ليس لديها تمثيل دبلوماسي في صوفيا. تقول أيضا بيأس “أنا متعبة، لقد فقدت كل شيء. كل ما أريده هو مغادرة بلغاريا. أفكر في أطفالي ومستقبلهم وتعليمهم: لا يمكننا البقاء في هذا الوضع”.
سواءً كانوا سوريون أم لا، يدرك المهاجرون جيدا أن فرصهم في الحماية ضئيلة. ولذلك، يعتبر معظمهم بلغاريا مجرد بلد عبور. تشير الأرقام إلى أنه اتُخذ 8090 قرارا بشأن طلبات اللجوء في عام 2024، ومع ذلك، أُغلق ما يقارب 7301 ملفا: واصل هؤلاء المتقدمون بالطلبات رحلتهم عبر الاتحاد الأوروبي ويُعتبرون “فارّين”. وقد غادر العديد من السوريين “الدوبلينه
ولكن بسبب لائحة دبلن، كما في حالة بشار، تُعيد الدول الأوروبية العديد منهم إلى بلغاريا. ما يعني عودة إلى نقطة البداية. وينتهي المطاف بالعديد منهم في الاحتجاز، ثم في مركز استقبال، حيث يبدأون إجراءات طلب اللجوء مرة أخرى، ليجدوا بعدها أنفسهم مرفوضين. إنه لطريق مسدود. وتصف ديانا رادوسلافوفا، المحامية في منظمة “صوت في بلغاريا” الوضع قائلة “يصبح الكثير من الناس بلا مأوى. إنهم في حالة من الضياع التام”.
بالنسبة لمن رُفض طلب لجوئهم نهائيا، مثل زاهدة، هناك خطر كبير من التدقيق في هوياتهم والانتهاء بهم في مركز احتجاز. يبقى بعضهم عالقا هناك لأشهر، مدة تصل إلى 18 شهرا كحد أقصى، بسبب وضعهم غير النظامي في البلاد. ومع ذلك، لا تُنظّم حاليا رحلات ترحيل قسري إلى سوريا، عدا عن خطوة أولى من نوعها قامت بها النمسا في 3 تموز/يوليو بعد ترحيلها إلى دمشق أول سوري من أوروبا بعد سقوط نظام الأسد، وهذا وضع آخر، حيث أنه مدان بجرم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا يُبقون هناك؟ توضح ديانا رادوسلافوفا: “لإجبار الناس على توقيع أوراق العودة الطوعية”. وتضيف “بالتشاور مع فرونتكس، تُقدّم هذه العودة الطوعية حزمة إعادة إدماج”.
ويُفصّل تقرير صادر عن مجموعة “نو نايم كيتشن” (NNK) نُشر في كانون الأول/ديسمبر 2024 الضغطَ للعودة “طوعا” إلى مراكز الاستقبال المفتوحة منذ سقوط النظام السوري. فعلى سبيل المثال، في 13 كانون الأول/ديسمبر، في مركز هارمانلي، أُجريت مقابلات فردية مع 200 سوري تعرضوا للضغط من أجل التوقيع. “خرج صديقي وقال إنهم ضربوه لإجباره على دخول الغرفة”، “ضربوا شخصين مُسنّين لإجبارهما على دخول الغرفة”، وفقًا لشهادات دققت فيها صحيفة الغارديان البريطانية. ونفت وكالة الدولة للاجئين (SAR) هذه الاتهامات لصحيفة الغارديان، مشيرة إلى “مبادرة بسيطة من خبراء اجتماعيين” من الوكالة “لتقييم نوايا طالبي اللجوء السوريين”.
يوضح الوضع في بلغاريا ملامح لتوجهات على المستوى الأوروبي. فقد جمّدت بعض الدول، بما فيها فرنسا، قراراتها المتعلقة بالسوريين. بينما اتجهت دول أخرى نحو إنهاء الحماية، مثل النمسا التي تُطوّر برنامجًا “للإعادة والطرد” وقدّمت “مكافأة عودة” قدرها 1000 يورو ابتداء من منتصف كانون الأول/ديسمبر 2024. تقول إسمي سميثسون سوين، منسقة مجموعة “نون ايم كيتشن” (NNK)، لصحيفة الغارديان “سقوط نظام الأسد كشف سياسات الهجرة العدائية لدول الاتحاد الأوروبي”. وأضافت “يجب على الاتحاد الأوروبي أن يُدرك أن سقوط ديكتاتور لا يمحو عقودا من الصراع”. وفي أعقاب تقرير المجموعة، ندد سوريون ومحاموهم في المملكة المتحدة بعمليات الإعادة بموجب اتفاقية دبلن إلى بلغاريا.
من مكان إقامته في مركز فرازديبنا مثل بشار، لا يزال هيثم يأمل في إيجاد مخرج من هذا المأزق البلغاري. الشاب السوري، ذو البنية النحيلة، ينفض الغبار عن ملابسه بحركات بطيئة ومتعبة، يقول إنه سئم من عدم قدرته على ارتداء ملابس نظيفة، ويرفع سرواله ليكشف عن جرح ملتهب. يقول ويعيد “علينا الخروج من هذا الوضع المروع. هل سأتمكن من الذهاب إلى فرنسا؟ إيطاليا؟ ألمانيا؟ أريد الدراسة؟”. في معرض لقائنا به في قلب صوفيا، وسط صفوف المطاعم التي يديرها عراقيون وسوريون، تعود الابتسامة إلى وجهه هو الذي ينتظر موعدا مع مصفف شعر، في حين أنه يخطط بعد ذلك للترويح عن نفسه بـ”أحد أفضل وجبات الكباب في الحي”.